الرعب اللغوي: الكلمات التي تُفتح بها الأبواب

0
(0)

في قلب كل حضارة خوفٌ دفين من الكلمة، ليس بوصفها وسيلة تواصل، بل كقوة فاعلة، كشيء يمكن أن يُستدعى به ما لا يجب استدعاؤه… في الثقافة العربية، لم تكن اللغة يوماً محايدة. الكلمة كانت وعداً، وقَسَماً، ودعاءً، ولعنة… ولهذا نشأ الرعب اللغوي من الإيمان القديم بأن بعض الكلمات لا تُقال عبثاً، وأن التلفظ بها ليس فعلاً صوتياً فقط، بل حركة تُحدث أثراً في العالم غير المرئي.

العرب الأوائل أدركوا أن للاسم سلطة… الاسم الصحيح يُنادى به الكيان، والاسم الناقص يُربك حضوره، والاسم المحرّف قد يستدعي شيئاً آخر تماماً… لهذا انتشرت فكرة كتمان الأسماء الحقيقية، سواء للإنسان أو للكيان الغيبي. في الموروث الشعبي، لا يُذكر اسم الجني صراحة، بل يُكنّى أو يُشار إليه بضمير، وكأن اللغة نفسها تشارك في بناء حاجز حماية… الرعب هنا لا ينبع من الكائن، بل من الكلمة التي قد تجرّه خلفها دون قصد.

في طقوس السحر القديمة، كانت الكلمات تُختار بعناية أشد من اختيار الأدوات… بعض التراكيب تُقال مع النفس، بعضها يُهمس، وبعضها لا يُنطق إلا مرة واحدة في العمر… ليس لأن الصوت يحمل القوة، بل لأن التكرار يخلق أثراً تراكمياً، وكأن الكلمة مع كل نطق تطرق باباً غير مرئي حتى يُفتح. لهذا ظهرت الاعتقادات التي تحذّر من قراءة نصوص معينة ليلاً أو في أماكن معزولة، فالرعب ليس في النص، بل في سياقه الزمني والمكاني.

اللغة في هذا السياق تتحول إلى مفتاح… ترتيب الحروف، عكسها، حذف جزء منها، أو قلب معناها، كل ذلك يُعد فعلاً سحرياً في الوعي القديم… بعض المعتقدات ترى أن الاسم إذا قُرئ معكوساً تغيّر أثره، وأن الكلمة إذا كُتبت بلا نقاط أو بفصل حروفها فقدت معناها الظاهري واكتسبت معنى خفياً… هذا اللعب اللغوي ليس تلاعباً أدبياً، بل محاولة للالتفاف على قوة الاسم دون الاصطدام بها مباشرة.

الرعب اللغوي يتجلى أيضاً في الكلمات التي لا تُفهم… التعاويذ التي بلا معنى واضح، الترانيم التي لا تنتمي للغة معروفة، الأصوات التي تشبه الكلام لكنها ليست كلاماً… هذه المنطقة الرمادية هي أكثر ما يثير القلق، لأن العقل لا يستطيع تصنيفها… الإنسان يخاف مما لا يستطيع تسميته، والمفارقة أن الرعب هنا يولد من غياب المعنى، لا من حضوره… كأن اللغة حين تفقد معناها تتحول إلى باب مفتوح على الفوضى.

في القصص الشعبية، كثيراً ما يظهر التحذير من “الكلمة الخطأ”… كلمة تُقال في لحظة غضب، دعاء يُطلق دون وعي، جملة تُردّد بدافع الفضول… بعدها يبدأ الاختلال… هذا النمط السردي يعكس خوفاً جمعياً من أن اللغة ليست آمنة كما نظن، وأن بعض الكلمات تملك ذاكرة، تتذكر من نطقها، وتعود إليه في وقت آخر… الرعب هنا ليس فورياً، بل مؤجل، يتسلل ببطء، تماماً كما تتسلل اللعنة.

الأدب العربي المعاصر لم يستثمر الرعب اللغوي إلا بشكل سطحي، غالباً عبر نصوص مسحورة أو كتب ملعونة، دون الغوص في الفكرة الأعمق: أن اللغة نفسها قد تكون الكيان… أن الكلمة ليست وسيطاً، بل حضوراً… يمكن للكاتب أن يبني رعباً كاملاً من جملة واحدة تتكرر، من اسم لا يجب ذكره، من نص يُمحى كلما قُرئ، أو من حروف تتبدل ترتيبها في كل مرة يُنظر إليها.

الرعب اللغوي يضع الإنسان في مواجهة سلاحه الأول… نحن نعيش باللغة، نفكر بها، نحلم بها، ونبني هويتنا من خلالها… فإذا أصبحت اللغة غير موثوقة، إذا تحولت الكلمة إلى باب، فمن يضمن لنا أن ما نقوله لا يستدعي ما لا نحتمل؟ هذا النوع من الرعب لا يعتمد على الدم أو الظلال، بل على الشك… شك في أبسط أداة نملكها، وفي أكثرها التصاقاً بنا.

في النهاية، الرعب اللغوي ليس عن كلمات ملعونة بقدر ما هو عن الوعي بأن للكلمة أثراً يتجاوز معناها… أن بعض الأبواب لا تُفتح باليد، بل بالنطق… وأن الخطر الحقيقي لا يكمن فيما نراه، بل فيما نقوله حين نظن أننا مجرد متحدثين، بينما نحن في الحقيقة نقرع أبواباً لا نعرف ما الذي يقف خلفها.

ما مدى فائدة هذه التدوينة؟

انقر على النجمة لتقييمها!

Share this content:

ك1-150x150 الرعب اللغوي: الكلمات التي تُفتح بها الأبواب
عضو مؤسس ~ Web ~  منشورات أخرى

كاتب وباحث في علوم ما وراء الطبيعة والخوارق

وعلوم القوى المجهولة

error: Content is protected !!