قصة الزائر الليلي

0
(0)

م أكن أؤمن بالظواهر الغريبة، ولا بالأرواح أو الأشباح. لكن كل شيء تغير منذ تلك الليلة. كانت البداية بسيطة، كأي يوم عادي. عدت إلى شقتي الصغيرة في الطابق الخامس بعد يوم طويل من العمل، وتناولت عشاءً سريعًا قبل أن أستلقي على الأريكة، متعبًا ولكن راضٍ.

كانت الساعة تشير إلى الثانية بعد منتصف الليل عندما سمعت الصوت لأول مرة. طرق خفيف على النافذة، بالكاد مسموع، ولكنه كان كافيًا لإيقاظني. اعتقدت في البداية أنه مجرد الرياح، لكن عندما اقتربت من النافذة، لم أجد أي شيء. كانت الشوارع فارغة، والليل هادئ.

ظننت أن الأمر انتهى، لكنني كنت مخطئًا. في الليلة التالية، عاد الطَرق. هذه المرة، كان الصوت أوضح وأكثر إلحاحًا. نهضت من سريري، واقتربت من النافذة ببطء. قلبي ينبض بسرعة. فتحت الستائر بيد مرتجفة، لكن مرة أخرى… لا شيء.

بدأت أعتقد أنني أتخيل الأشياء. ربما كان التعب أو الضغط. لكن مع مرور الأيام، أصبح الطَرق جزءًا من روتيني الليلي. في كل ليلة، في نفس الوقت بالضبط. كنت أستيقظ، أتحقق من النافذة، ولا أجد أي شيء. حتى تلك الليلة.

في تلك الليلة، عندما اقتربت من النافذة، رأيته. كان هناك، يقف في الظلام خارج نافذتي. لم أستطع رؤية ملامحه بوضوح، لكنني شعرت بوجوده. كان كيانًا طويلًا ونحيفًا، مجرد ظل يتحرك بخفة بين الأشجار أمام المبنى. لم يتحرك، لم يحاول الاقتراب. فقط… كان هناك.

عدت إلى سريري بسرعة، محاولاً إقناع نفسي بأنني أتوهم. لكن كيف يمكن للخيال أن يكون واضحًا بهذا الشكل؟ حاولت النوم، لكن كلما أغمضت عيني، كنت أشعر بتلك العيون، مهما كانت، تراقبني من الخارج.

مر أسبوع، ولم يختفِ الزائر. في الواقع، كل ليلة كان يقترب أكثر. لم يعد يقف بعيدًا بين الأشجار؛ أصبح أقرب، وكأن وجوده بات جزءًا من حياتي. وفي كل ليلة، كان هناك شيء يتغير… كانت الأجواء تصبح أثقل، وكأن الهواء نفسه صار ملوثًا بالخوف.

قررت في إحدى الليالي أن أواجهه. كان ذلك قراري الغبي. عندما عاد الطَرق، نهضت وفتحت النافذة. “من أنت؟ ماذا تريد؟” صرخت، لكن الصوت خرج مرتعشًا وضعيفًا. لم أكن أتوقع ردًا. لكنه تحرك. رأيت جسده النحيل يتحرك ببطء نحو نافذتي.

أغلقت النافذة بسرعة وتراجعت إلى الخلف. شعرت بخوف لم أختبره من قبل. لم يكن مجرد شخص يراقبني… كان شيئًا آخر، شيئًا ليس من هذا العالم. حاولت النوم، لكن كلما أغمضت عيني، كان هناك، خلف النافذة، ينتظر.

في صباح اليوم التالي، قررت الانتقال من الشقة. لم أستطع البقاء في مكان يلاحقني فيه هذا الكابوس الليلي. جمعت أغراضي بسرعة وغادرت. لكن حتى الآن، في كل ليلة، أشعر أنني أسمع الطَرق على النافذة، وأتساءل… هل تبعني؟ أم أنه فقط انتظار للصيد التالي؟

أعتقدت أن الانتقال سيبعدني عن الكابوس. ظننت أن كل شيء سينتهي بمجرد تركي لتلك الشقة، وكأن كل ما حدث كان مرتبطًا بالمكان، لا بي. لكن بعد أيام قليلة من انتقالي إلى شقة جديدة في حي آخر، أدركت أنني كنت مخطئًا.

في الليلة الأولى بعد الانتقال، لم يكن هناك أي طرق على النافذة. استيقظت بسلام لأول مرة منذ أسابيع. شعرت بشيء يشبه الراحة، ولكنها كانت مؤقتة. مر يومان، ثلاثة، لكنني كنت أعلم في داخلي أن الهدوء لن يستمر.

وفي اليوم الرابع، عاد الطَرق.

كنت مستلقيًا في السرير، مستمتعًا بلحظات هادئة، عندما سمعت الصوت مجددًا. في البداية، ظننت أنني أتخيل. حاولت تجاهله، أقنعت نفسي أنه مجرد صوت من الشارع، أو ربما أحد الجيران. لكن الطَرق استمر. لم أتمكن من تجاهله. نهضت ببطء، وتوجهت إلى النافذة.

هناك، خلف الزجاج، كان يقف الزائر. كما كان دائمًا، ظله النحيل يغرق في الظلام، لكنه هذه المرة كان أقرب. شعرت بأنفاسه الثقيلة تتردد في الأجواء، كأنما كان ينتظرني أن أقترب، أن أفتح النافذة، أن أدعوه للدخول.

كان الخوف يتسرب إلى كل زاوية من عقلي. لم أعد قادرًا على التفكير بوضوح. بدأت أتساءل: هل أنا مريض؟ هل كل هذا مجرد وهم؟ ربما كان العقل يلعب عليّ خدعة قاسية. بدأت تجتاحني أفكار جنونية. هل يمكن أن يكون الزائر جزءًا مني؟ هل هو إسقاط لشيء أعمق؟ ربما خوف دفين، أو شعور بالعزلة؟

مع مرور الأيام، أصبحت أكثر انعزالًا. توقفت عن الخروج من المنزل، حتى العمل تخليت عنه. لا أريد التفاعل مع أحد. الزائر كان كل ما يشغل ذهني. لم أعد أرى العالم كما كان. كل مكان أذهب إليه، كل نافذة أقترب منها، كنت أشعر بأن هناك عينين تراقباني، تنتظران اللحظة المناسبة.

بدأت أحلامي تتحول إلى كوابيس. في كل حلم، كنت أجده هناك، يقف في الزاوية، صامتًا، لا يتحرك. استيقظ في منتصف الليل، غارقًا في العرق، وأشعر بثقل رهيب على صدري. أحيانًا، كنت أشعر بوجوده بجانبي، كأن أنفاسه تملأ الغرفة.

لم أعد أميز بين الواقع والوهم. بدأ كل شيء ينهار من حولي. حتى عندما حاولت أن أهرب مجددًا، انتقلت إلى فندق بعيد لعدة أيام، وجدت نفسي أعود في النهاية إلى نفس النقطة. الزائر كان ينتظرني في كل مكان أذهب إليه، يطرق على نافذتي مهما كانت بعيدة أو محصنة.

بدأ عقلي ينهار. هل كان الزائر موجودًا حقًا؟ أم أنني من خلقه؟ ربما كان انعكاسًا لأحلامي السوداوية، أو هاجسًا تجسد من خوفي المستمر. لكن بغض النظر عن مصدره، كان يؤثر علي بشكل عميق. لم أعد قادرًا على الهروب منه، ولم أعد قادرًا على فهم ما إذا كان حقيقيًا أو مجرد وهم يلتهمني من الداخل.

في النهاية، وصلت إلى نقطة لم أعد فيها أميز بين الليل والنهار. كل ما كنت أسمعه هو الطرق المستمر. كل ما كنت أراه هو ظله النحيل الذي يقف في الظلام، يراقبني بصمت. أصبحت مشوشًا بالكامل. لم أعد أستطيع التمييز بين الواقع والوهم، بين الخوف والحقيقة. كان الزائر قد استحوذ على كل جزء من حياتي، وكلما حاولت الهروب، كان يقترب أكثر.

أحيانًا أفكر… ربما الحل الوحيد هو مواجهته. ولكن ماذا لو لم يكن هناك شيء أواجهه؟ ماذا لو كان الزائر… أنا؟

ما مدى فائدة هذه التدوينة؟

انقر على النجمة لتقييمها!

Share this content:

cropped-AHW-logo-8-150x150 قصة الزائر الليلي
منشورات أخرى

راوي قصص - رابطة أدب الرعب

error: Content is protected !!