الارتداد في أدبيات السحر ومحاكم التفتيش: حين يتحول الإيمان إلى تهمة

0
(0)

كان مفهوم الارتداد أو Apostasy من أخطر التهم الدينية في العصور الوسطى وبدايات العصر الحديث، إذ لم يكن يُنظر إليه بوصفه مجرد اختلاف في العقيدة أو انحراف فكري يمكن تصحيحه، بل كخيانة كبرى ضد الله نفسه، وخروج كامل من منظومة الإيمان، وهو ما جعله أحد الركائز الأساسية في الاتهامات المرتبطة بالسحر وعبادة الشيطان. ففي الذهنية الدينية لتلك الفترات لم يكن الساحر مجرد شخص يزاول طقوسًا محرمة، بل مرتدًا بالدرجة الأولى، شخصًا تخلى طوعًا عن المسيحية ونقض العهد المقدس الذي يربطه بالإله، ليمنح ولاءه لقوة معادية تمثلت في الشيطان.

وفق التصورات اللاهوتية التي سادت أوروبا خلال القرون الوسطى، كان يُعتقد أن الدخول في طائفة سحرية هرطقية لا يتم إلا عبر طقس مركزي بالغ الخطورة يعرف بسبت الساحرات، وهو الاجتماع الليلي الذي تُعقد فيه العهود مع الشيطان. في ذلك الطقس لم يكن المطلوب من الساحرة أو الساحر مجرد تعلم التعاويذ أو ممارسة الطقوس، بل كان الشرط الأول هو التخلي الكامل عن الإيمان المسيحي والتبرؤ من الله والمسيح والعذراء والقديسين، ثم إعلان الولاء الكامل للشيطان باعتباره السيد الجديد والمانح للقوة. هذا التحول العقائدي الكامل هو ما جعل الارتداد يُعد جوهر الجريمة قبل أن تكون ممارسة السحر نفسها هي محل الإدانة.

بعكس الهرطقة التقليدية التي كانت تُفهم على أنها خطأ في التفسير أو انحراف في الممارسة يمكن إصلاحه عبر التوبة أو إعادة التعليم الديني، فإن الارتداد كان يُصنّف كجريمة نهائية لا رجعة فيها، كأنه انقلاب وجودي كامل على الإيمان، لا مجرد زلة فكرية. المرتد في المخيال الديني والقضائي لم يكن مجرد ضال، بل خائن، إذ يُنظر إليه كمن خان العهد الإلهي كما يُخون الجندي وطنه في زمن الحرب. ولهذا السبب لم تكن العقوبات المقررة للارتداد إصلاحية، بل إبادة كاملة للجسد، غالبًا بالحرق، بوصفه تطهيرًا نهائيًا من نجاسة الخيانة الروحية.

ارتبط مفهوم الارتداد في سياق السحر بفكرة العقد مع الشيطان، حيث كان يُعتقد أن الساحر لا ينال قوته مجانًا، بل مقابل التخلي عن خلاص روحه. كان هذا التصور يخدم منطق الكنيسة في تفسير انتشار السحر على أنه نتيجة مباشرة للشيطان الذي يغوي البشر عبر إغراء القوة والمعرفة، مقابل ولائهم المطلق له. ولذلك كانت أي ممارسة سحرية، حتى لو كانت مرتبطة بالعلاج أو الأعشاب أو الطقوس الشعبية، قابلة لأن تُعاد صياغتها قضائيًا على أنها دليل على ارتداد كامل وشراكة شيطانية.

في محاكم التفتيش، لم يكن إثبات الارتداد يحتاج إلى دليل مادي بالضرورة، بل كان الاعتراف وحده كافيًا، وغالبًا ما كان يُنتزع تحت التعذيب. وكان القضاة ينظرون إلى اعتراف الساحرة بأنها أنكرت المسيح أو بصقت على الصليب أو قسمت باسم الشيطان باعتباره الدليل الأعلى الذي لا يترك مجالًا للشك. بهذه الطريقة تحوّل الارتداد من مفهوم ديني إلى أداة قانونية لتصفية الآلاف تحت غطاء حماية العقيدة.

نفسيًا وفلسفيًا يمكن فهم هذا التصور المتشدد للارتداد على أنه انعكاس لخوف عميق من انهيار النظام العقائدي الذي كان يشكّل أساس المجتمع. فحين يكون الإيمان هو العمود الفقري للهوية السياسية والاجتماعية والأخلاقية، فإن الخروج عنه لا يُفهم كحرية فردية، بل كتهديد شامل للنظام كله. ولهذا لم يُعامل المرتد كصاحب رأي، بل كعدو وجودي يجب إقصاؤه.

ومع تطور الفكر الإنساني وتراجع سلطة الكنيسة المطلقة في العصر الحديث، بدأ مفهوم الارتداد يفقد طابعه الجنائي، وتحول تدريجيًا إلى مسألة حرية فكرية ودينية. إلا أن ظلاله التاريخية لا تزال حاضرة بقوة في أدبيات الرعب، والسحر، والسينما، حيث يُستعاد المرتد دائمًا بوصفه الشخصية التي كسرت العقد المقدس ودخلت منطقة الظل، حيث لا حماية إلهية ولا عودة آمنة.

هكذا يظهر الارتداد في سياق السحر، لا باعتباره مجرد خروج عن دين، بل باعتباره لحظة عبور خطيرة من الإيمان إلى الفوضى، من الطاعة إلى التمرد، ومن الخضوع للنظام الإلهي إلى التحالف مع القوة التي تمثل نقيضه المطلق. إنه ليس مجرد اختيار عقائدي، بل نقطة لا عودة في المخيال الديني المرعب، حيث لا يُنظر إلى المرتد كإنسان أخطأ، بل كائن تخلّى عن خلاصه بإرادته وسلّم نفسه للظلام.

ما مدى فائدة هذه التدوينة؟

انقر على النجمة لتقييمها!

Share this content:

ك1-150x150 الارتداد في أدبيات السحر ومحاكم التفتيش: حين يتحول الإيمان إلى تهمة
عضو مؤسس ~ Web ~  منشورات أخرى

كاتب وباحث في علوم ما وراء الطبيعة والخوارق

وعلوم القوى المجهولة

error: Content is protected !!