الرعب ليس دائمًا ما يظهر في صورة وحش يهاجم أو شبح يطارد، بل قد يكون صامتًا، خفيًا، يتسلل إلى العقل دون صوت، ويسكن في تفاصيل الحياة اليومية، أو في جرحٍ لم يلتئم من الماضي. هذا النوع من الرعب يُعرف بـ”الرعب النفسي”، وهو نمط أدبي وفني يعتمد على تفكيك النفس البشرية، واستكشاف مخاوفها الأكثر عمقًا، تلك التي لا ترتبط بالضرورة بعالمٍ خارق، بل تنبع من العقل ذاته، ومن تاريخه المظلم، وواقعه الهش.
الرعب النفسي هو نوع من أدب أو سينما الرعب يُركّز على المشاعر الداخلية للشخصيات، مثل القلق، الذنب، الوسواس، الجنون، والعزلة. بدلًا من الاعتماد على مشاهد الدماء أو الكائنات الخارقة، يعتمد الرعب النفسي على التوتر العقلي، وعلى خلق حالة من الشك في الواقع، أو حتى في هوية الشخصيات أنفسهم. يشعر القارئ أو المشاهد بأن هناك شيئًا مريبًا، لكن لا يعرف بالضبط ما هو، وغالبًا ما يظل التهديد غامضًا وغير ملموس.
الرعب التقليدي يُركّز غالبًا على الخطر الخارجي: وحش، قاتل متسلسل، منزل مسكون، أو لعنة. أما الرعب النفسي، فمصدر الخطر فيه داخلي، كأن يكون مصدر الرعب هو عقل الشخصية، أو ذنب قديم، أو مرض نفسي، أو توتر نفسي عميق غير مفسّر. كذلك، لا يعتمد الرعب النفسي على الخدع البصرية أو المفاجآت، بل على الإيحاءات والرموز، وعلى التوتر التدريجي الذي يتصاعد دون أن ينفجر بالضرورة.
يمكن تتبّع جذور الرعب النفسي في الأدب القوطي والرومانسي الأسود، حيث بدأت القصص تُركّز على العزلة والجنون مثل أعمال إدغار آلان بو، خصوصًا في قصص مثل “قلب الواشي” و”السقوط في منزل آشر”. في القرن العشرين، تطور هذا الاتجاه بشكل أكبر مع صعود علم النفس التحليلي، خاصة في ظل تأثير أفكار سيغموند فرويد، حول اللاوعي، والصدمة، والكبت، والهوية.
في الأدب الحديث، يمكن اعتبار رواية “اللامكان” لشارلوت بيركنز جيلمان، ورواية “منزل ورق” لمارك دانيلفسكي، وأعمال شيرلي جاكسون مثل “منزل على تل المسكون”، علامات بارزة في ترسيخ الرعب النفسي كنوع مستقل.
في السينما، ظهر الرعب النفسي بقوة في أفلام مثل The Shining لستانلي كوبريك المقتبس عن رواية ستيفن كينغ، وفيلم Black Swan لدَارِن أرونوفسكي، وJacob’s Ladder وHereditary وThe Babadook، حيث يُستبدل الرعب بالخوف من فقدان العقل أو فقدان الواقع.
أهم ما يُميّز الرعب النفسي هو غموض مصدر الخطر. القارئ أو المشاهد لا يستطيع أن يحدد ما إذا كان ما يحدث حقيقيًا أم من وحي خيال الشخصية. تتكرر ثيمات مثل الانفصام، الاضطراب العقلي، الماضي القمعي، الشعور بالذنب، أو الصدمات الطفولية. البيئة تكون عادة معزولة، مغلقة، وتُعزز الشعور بالوحدة والاختناق. الزمن غالبًا غير واضح، والذكريات مشوشة، وقد تكون الشخصية الرئيسية غير موثوقة في سردها للأحداث، مما يخلق توترًا دائمًا لدى المتلقي.
لم يحظَ الرعب النفسي في الأدب العربي بنفس الشهرة التي نالها في الغرب، لكنه بدأ يتسلل إلى بعض الأعمال الحديثة، لا سيما تلك التي تهتم بالجانب النفسي والسلوكي للشخصيات، وتُعيد رسم الرعب من خلال شعور الإنسان العربي بالاغتراب، أو القلق الوجودي، أو الموروث القمعي.
من الأمثلة الملفتة في هذا الإطار روايات مثل “يوتوبيا” لأحمد خالد توفيق، و”فرج” لرضوى عاشور، و”خوف” لأسامة المسلم (بعض أجزائها)، وإن لم تكن كلها تنتمي للرعب النفسي بشكل كامل، لكنها تتضمن ملامح واضحة له، خصوصًا في ما يتعلّق بالتوتر الداخلي، والانهيار التدريجي للشخصيات.
البيئة العربية، بما تحمله من موروث روحي، وكبت اجتماعي، وصراع داخلي بين الحداثة والتقليد، تمنح أرضًا خصبة جدًا للرعب النفسي، خصوصًا في الأحياء المعزولة، والقصور المهجورة، والبيوت التي تحفظ صدمات الأجداد. لكن هذا النوع لا يزال في بداياته، ويحتاج إلى كتّاب يغامرون باستكشاف الذات العربية في أزمنتها المتصدعة، لا من الخارج فقط، بل من الداخل المظلم أيضًا.
الرعب النفسي ليس قصة شبح أو لُعبة دم، بل هو تجربة تهزّ الإدراك وتُربك الحدس، وتفتح أبوابًا لا تُغلق بسهولة. إنه أقرب إلى مرآة متكسّرة يرى القارئ فيها انعكاسات مخاوفه الخاصة، ومقاطع من ذاكرته التي لم يُنقب عنها يومًا. إنه أدب أو سينما لا تهمس فقط: “هناك خطر”، بل تهمس: “ربما أنتَ هو هذا الخطر”. وبينما يواصل العالم إنتاج أعمال مذهلة في هذا المجال، فإن الرعب النفسي في الأدب العربي لا يزال ينتظر من يحمله بجرأة، ويكتشف فيه بواطن الخوف المعلّق بين العقل والجنون.
المُدون الرسمي لرابطة أدب الرعب