الوجه المظلم للأدب: سيرة الرعب القوطي من الغرب إلى الشرق

0
(0)

نشأ أدب الرعب القوطي في إنجلترا خلال النصف الثاني من القرن الثامن عشر، في ظل تحولات فكرية عميقة أحدثها عصر التنوير الذي رفع راية العقل والمنطق كأعلى مرجع للمعرفة والتفسير… غير أن بعض الأصوات الأدبية شعرت بأن الإنسان لا يُختصر في ما هو عقلاني فقط، وأن النفس البشرية تخفي مناطق مظلمة، لا يمكن إضاءة أركانها إلا بالفن الذي لا يخشى العتمة.

من هنا انطلقت الرواية القوطية كرد فعل على العقلانية المطلقة، ومثّلت مغامرة أدبية نحو استكشاف المجهول والمكبوت والمخيف.

رواية “قلعة أوترانتو” التي كتبها هوراس والبول عام 1764 تُعدّ الشرارة الأولى لهذا التيار، حيث رسمت ملامح عالم خاص تسكنه القلاع المهجورة، والأرواح المعذبة، والأسرار العائلية الدفينة.

وفيما قدّمت آن رادكليف امتدادًا لهذا النهج من خلال أعمال أضافت بُعدًا نفسيًا عاطفيًا إلى هذا النوع، جاءت ماري شيلي في بداية القرن التاسع عشر لتعيد تعريف الرعب القوطي من زاوية جديدة في رواية “فرانكشتاين”، حيث اجتمع العلم بالرعب، والمختبر بالذنب، والخلق بالتمرد، لتحوّل وحشها إلى مرآة عاكسة للضمير الإنساني التائه.

ومع إدغار آلان بو، بلغ هذا الأدب ذروة الرعب النفسي، حيث لم تعد الأشباح تسكن القلاع فقط، بل استقرت داخل النفس، وصار الجنون نسيجًا أدبيًا قائمًا بذاته، لا يشترط وجود كيانات خارقة ليُخيف.

مع اقتراب القرن التاسع عشر من نهايته، كانت رواية “دراكولا” لبرام ستوكر قد وسّعت من نطاق هذا الأدب، بإدخال رمز مصاص الدماء ككائن يتغذى على الخوف والكبت والغرائز الممنوعة، مقدّمة رواية تفيض بالرمزية الجنسية والسياسية، وتعكس مخاوف المجتمع الفيكتوري من الانفتاح، ومن الآخر الغريب، ومن العالم الذي يتغيّر بسرعة.

في تلك الحقبة أيضًا، تجلّت ازدواجية الإنسان في رواية “دكتور جيكل ومستر هايد”، حيث البطل هو ذاته الوحش، والعقل نفسه هو من يخلق الجحيم.

انتقل الأدب القوطي في القرن العشرين إلى أمريكا، وهناك اتخذ مسارًا مختلفًا، إذ لم تعد الأماكن وحدها مصدر الرعب، بل باتت الأسر والمجتمعات والذاكرة والعرق والهوية، كلها موضوعات للرعب. ظهر ما يُعرف بالقوطي الجنوبي، الذي جسّد حياة الجنوب الأمريكي بما فيها من فقر، وانغلاق، وصراعات اجتماعية وتاريخية، وعُولجت هذه القضايا ضمن قالب أدبي لا يخلو من الرعب والكآبة والتشظي.

في هذا السياق، تحوّلت البيوت القوطية من قلاع إلى منازل ريفية منهارة، وأصبحت الشخصيات ليست فقط ضحايا للمجهول، بل أيضًا لأنفسهم وأقدارهم الاجتماعية.

في العصر الحديث، ومع بروز تيارات ما بعد الحداثة، تغيّرت ملامح الأدب القوطي جذريًا. لم يعد الرعب يتطلب قلاعًا أو عواصف أو مقابر، بل يكفي أن ننظر داخل أنفسنا.

أصبح الجسد ذاته مكانًا قوطياً، والذاكرة بيتًا مسكونًا، والعلاقات العاطفية دهاليز غامضة… كثير من الروايات الحديثة تنتمي لهذا النوع حتى وإن لم تُصنّف رسميًا ضمنه، لأن ما يحدد القوطي هنا لم يعد المكان بل التجربة الإنسانية المشروخة، المملوءة بالذنب والتشظي والخوف من فقدان المعنى.

وبينما تطور هذا النوع وتفرّع في الغرب، كان الأدب العربي يسير في مسار مختلف، أكثر التصاقًا بقضايا الهوية والانتماء والنهضة، إلا أن ظلال الأدب القوطي بدأت بالظهور بشكل غير مباشر… ترجمات مثل “دراكولا” و”فرانكشتاين” عرّفت القارئ العربي على هذا النوع، وسلسلة “ما وراء الطبيعة” التي كتبها أحمد خالد توفيق قدّمت للأجيال الحديثة قصصًا تجمع بين اللعنة والمكان الغامض والشخصية المعذبة، بروح قوطية مغلفة بالمخيال الشعبي المحلي.

أما في بعض الأعمال المعاصرة، فقد بدأ كتّاب عرب يستلهمون الرمزية القوطية بأسلوب معاصر، كما في روايات تتناول الجنون في أماكن مغلقة، أو تلك التي تُعيد تأويل مفهوم البيت ككيان يحمل ذاكرة مؤلمة، أو في قصص تعتمد على الموروث الشعبي ولكن تصوغه في قالب نفسي معقّد.

رغم أن البيئة العربية لا تحوي “قلاعًا قوطية” بالمعنى المعماري، فإنها غنية بما يكافئها من عناصر: القصور المهجورة، القبور العتيقة، المقامات، الدور القديمة، والخرائب التي تحمل أسرارًا لا تُقال.

هناك إمكانيات هائلة لبناء أدب رعب قوطى عربي متفرّد، يُترجم القلق الروحي الجمعي والكوابيس المتوارثة في ذاكرة المجتمعات إلى سرد يضاهي، بل وربما يتجاوز، ما قدمه الغرب في هذا المضمار.

وهكذا، فإن أدب الرعب القوطي ليس نوعًا جامدًا، بل كائن أدبي حيّ يتغيّر بتغير العصر والمكان والوعي، ومع دخوله العالم العربي، قد يجد روحًا جديدة وأماكن لا تزال تنتظر أن تُكتشف بعيون الرعب والجمال المظلم.

ما مدى فائدة هذه التدوينة؟

انقر على النجمة لتقييمها!

Share this content:

AHW-logo-3-e1749069821536-150x150 الوجه المظلم للأدب: سيرة الرعب القوطي من الغرب إلى الشرق
عضو مُدون ~  منشورات أخرى

المُدون الرسمي لرابطة أدب الرعب

error: Content is protected !!