ما وراء العزيف

img
May
26

المقالة منقوله من مدونة الكاتب والباحث الاستاذ/ عبدالله قاسم

 

يا سادة، اسمعوا ما سأقصّه عليكم، فهذه حكاية ليست كسائر الحكايات، ورجاؤكم أن تصغوا لي بقلوب مفتوحة لا تخشى الظلال…

 

في مدينة صنعاء، وفي زمنٍ يعود إلى ما يقارب العام 700 للميلاد، وُلد طفل أطلقوا عليه اسم (عبدالله الحظرد) … لكن لا تنخدعوا بالاسم ولا بالمكان، فذلك القلب الصغير الذي خفق بين جبال اليمن لم يكن من هذا العالم وحده… لا، لم يُخلق من لحمٍ ودمٍ فقط، بل من غبار أسرارٍ أقدم من الزمان، ومن ظلمةٍ لا ترى بالعين المجردة.

 

نشأ في بيتٍ يهوديٍّ عريق، نعم، لكن لا تظنوا أنه بيت كسائر البيوت… لقد كانت عائلته من حُرّاس المعرفة المحظورة، أولئك الذين ورثوا كتب (الكابالا) كما تُورث الخناجر المصقولة في الليالي المقمرة… كانوا يحفظون أسماء لا تُقال، ومعادلات تفتح بواباتٍ لا يُراد لها أن تُفتح… وكان (عبدالله الحظرد) بينهم… الطفل الذي لم يكتفِ بما حُفظ، بل أراد أن يعرف ما خفي.

 

يُقال، أن (عبدالله الحظرد) كان يقف طويلاً أمام الرفوف القديمة، حيث ترقد الكتب المغلقة بسلاسل من التحذير لا من الحديد… كان يحدّق في كتاب (سيفر يتزيراه)، يتأمل الحروف العبرية كأنها طلاسم تنبض بالحياة… ولم يلبث حتى غاص في (الزوهار)، ذاك الكتاب الذي يشير إلى النور الإلهي كما لو أنه خيط رفيع يمتدّ في عتمة الكون.

 

لكنّ المعرفة التي بين يديه لم تشبع جوعه… لا، لم يكن كمن يقرأ لينسى، بل كمن يبحث لينكشف… أراد أكثر… أراد أن يخلط بين (الكابالا) وبين ما سمع عنه من علوم السحر في بابل، ومن خفايا الهند، ومن رموزٍ دُفنت في صحاري مصر.

 

ومن هنا بدأت الرحلة، لا على أقدامه فقط، بل في عقله وروحه… رحلة لا تُقاس بالمسافات، بل بعدد المرات التي عبر فيها أبوابًا لم يكن يجب أن تُفتح، وبالهمسات التي سمعها في ليالٍ لم يجرؤ سواه على السهر فيها.

 

هكذا كان (عبدالله الحظرد)… لا تظنوه ساحرًا فقط، ولا مجنونًا كما قال عنه البعض… كان باحثًا عن الحقيقة، حتى وإن كانت تلك الحقيقة تقود إلى الجنون نفسه.

 

خرج (عبدالله الحظرد) من صنعاء في مطلع شبابه، تاركًا خلفه المدن والناس … وكأن شيئًا ما كان يناديه من البعيد… لا أحد يعرف بالضبط متى اتخذ قراره، لكن المؤكد أنه لم ينظر خلفه قط… عبر الصحاري الشاسعة التي تبتلع من يضل طريقه، وواجه عواصف لا تهب إلا في الليالي المظلمة… تلك التي لا ينام فيها الرمل.

 

يُحكى، بل يُهمَس، أن (عبدالله الحظرد) كان يتنقل بين أطلال بابل القديمة، يسير بين أعمدة نصف غارقة، ويتحدث مع الظلال… كان يبيت في معابد مهجورة يسمع فيها أصواتًا لا تُشبه أصوات البشر… في إحدى لياليه هناك، روى أحدهم أنه شوهد وهو يرسم دوائر معقّدة بالرماد والعظام، ويتمتم بكلمات بلغة اندثرت، فإذا بالهواء يثقل من حوله، وكأن الزمن نفسه توقف ليستمع.

 

وفي إحدى الليالي قرب نهر دجلة، نزل في خربة لا يسكنها أحد… وعندما استيقظ في الفجر، وجد حوله رموزًا محفورة لم تكن موجودة من قبل، والهواء كان يعبق برائحة كبريت، وكأن شيئًا غير مرئي كان يراقبه وهو نائم… لم يهرب… لا، بل جلس يدوّن ما حدث، قائلاً إنهم – أي الكيانات – لا تظهر إلا لمن عرف كيف يسأل.

 

ثم سار إلى مصر، لا إلى قاهرة اليوم، بل إلى صعيدها الغامض، حيث الرمال تخفي أسرارًا لا ترضى بالكشف… هناك، قاده أحد الكهنة الممسوسين إلى غرفة سرية داخل هرم مكسور الرأس، حيث كُتبت نقوش لا تظهر إلا تحت ضوء القمر… قيل إن (عبدالله الحظرد) بقي هناك ثلاثة أيام لم يتحدث خلالها مع أحد، وعندما خرج، كانت عيناه لا ترفّان، وشفاهه تتمتم بأسماء لم تُخلق للفظ البشري.

 

خلال تلك الرحلات، التقى (عبدالله الحظرد) بشيوخٍ صامتين، سحرة فقدوا لسانهم خوفًا من نطق الحقيقة… أعطوه نصوصًا مكتوبة على جلود سوداء، تحكي عن كيانات لا اسم لها، تعيش في الشقوق بين العوالم… كان بعضهم قد فقد عقولهم بعد قراءة سطر واحد منها… لكن (عبدالله الحظرد)… قرأها كلها… بل إنه كتب على هامشها ملاحظات.

 

وهنا بدأ يخط كتابه المحظور (العزيف).

 

ذاك الكتاب، لم يكن مجرد أوراق… كان صندوقًا للأصوات… كل فصل فيه كان يصرخ، وكل كلمة كانت مفتاحًا لبوابة… جمع فيه تعاليم (الكابالا)، وحكم (الزوهار)، وطقوس السحر المصري، ونصوصًا بابلية منسية، وخفايا لا يعرفها إلا من فقد بعضًا من إنسانيته.

 

هل تعرف معنى كلمة “العزيف”؟ البعض يقول إنها صوت الحشرات في الليل… لكن (عبدالله الحظرد)، وقد عَرِف ما لا نعرف، كان يسمع في تلك الهمسات شيئًا آخر… كان يسمع أسماء الأرواح، وصرخات الجن، ونحيب الأرواح المعلقة بين العالمين… لم تكن همسات طبيعة، بل دعوات… ولبّى النداء…

 

ولأن من يكتب بـدم الأرواح لا ينجو، فقد كانت نهاية (عبدالله الحظرد) كما بدأ… غامضة، مروّعة، يلفّها الصمت… لم تكن كنهايات البشر الذين نعرفهم… لا مرض أقعده، ولا موت زاره على فراشه، ولا حتى سيفٌ أُشهر في وجهه… لا، نهايته كانت شيئًا آخر، شيئًا لا نملك له تفسيرًا، ولا جرأة لوصفه الكامل.

 

يقال بأن (عبدالله الحظرد) اختفى في دمشق، المدينة التي ظنها البعض مأمنًا له، بعد أن جال أصقاع الأرض وعاد محمّلاً بأسرار تفوق العقل… في تلك المدينة القديمة، وفي ليلة بلا قمر، تقول بعض الروايات المنسية إنه نفّذ طقسًا أخيرًا… طقسًا كان يتطلب تضحيات لم يُعلَن عنها، وأسماء لم تُكتب قط… أراد أن يستدعي كيانًا، لا اسمه يُقال، ولا صورته تُرسم… كيانًا، حسب ما يُروى، لم يُخلق ليُرى، ولم يوجد ليُفهم.

 

ويقال، بل يُقسم بعض من عاشوا تلك اللحظة، أنه وقف في ساحة ضيقة في دمشق، محاطًا بدوائر قديمة خُطّت بدم الطيور السوداء، وبدأ يتمتم بلغات لا تنتمي للبشر… ولم تمضِ سوى لحظات… حتى اختلّ الهواء… انقلبت السماء على لونٍ غريب، وساد صمت ثقيل، ثم… تمزق (عبدالله الحظرد)، هكذا ببساطة، كأن يدًا غير مرئية أمسكت به ومزّقته قطعةً… قطعة، ثم ابتلعته في طرفة عين… لم يبقَ له أثر… لا صرخة، لا جسد، لا رماد.

 

هل مات؟ أم عَبَر إلى ذلك العالم الذي طالما كتب عنه؟ لا أحد يعلم… ما نعرفه فقط، أن لا أحد رآه بعد تلك الليلة، ولا حتى ظله.

 

ومنذ ذلك اليوم، أصبح اسم (عبدالله الحظرد) يُهمَس في الزوايا المظلمة، لا يُقال علنًا… اصبحت قصة يُروى بها للعبرة، مثالًا لمن تسوّل له نفسه تحدي القوى التي لا تُحب أن تُستفز… أصبح رمزًا لكل من حاول أن يرى ما لا يُرى… فانتهى مفقودًا في العتمة.

 

فاحذر.

 

إن كنت تظن أن ما قرأته عن (عبدالله الحظرد) هو كل شيء، فأنت لم تبدأ بعد… وإن راودك الفضول، وبدأت تبحث عن كتابه المحرّم، (العزيف) فتذكر… لم يكن مجرد كتاب، بل بوابة.

 

وكل من فتحها… إما جنّ، أو مات، أو ما هو أسوأ بكثير.

عضو مؤسس | Website |  + posts

كاتب وباحث في علوم ما وراء الطبيعة والخوارق

وعلوم القوى المجهولة

error: Content is protected !!