قصة الحبر المسكون

0
(0)

لطالما كنت مهووساً بكل ما هو غامض وخفي. العالم السفلي، الجن، الشياطين، والكيانات الماورائية كانت دائماً ما تجذبني. ربما كان ذلك مجرد فضول طبيعي، وربما كان شيئاً أعمق من ذلك بكثير. في داخلي، كنت أشعر بأن هناك أشياء لم تُكتشف بعد، وأنني قادر بطريقة ما على الوصول إليها. قرأت الكتب، شاهدت الأفلام، وتابعت كل ما يتعلق بالعوالم المجهولة، لكنني كنت أبحث عن شيء أكثر من مجرد أساطير وقصص خيالية.

أذكر جيداً ذلك اليوم الذي قلب حياتي رأساً على عقب. كنت أقلب بعض الكتب القديمة في مكتبة والدي، المكتبة التي كانت مهملة منذ وفاته. كان والدي شخصاً هادئاً، ولم أكن أعلم الكثير عن حياته قبل أن أكون جزءاً منها. عندما رحل، ترك خلفه المكتبة، التي كانت تعج بالكتب الغريبة التي لم أجرؤ على لمسها من قبل. وفي يوم من الأيام، وبينما كنت أتفحص الكتب، وجدت كتاباً لم أره من قبل، كان يبدو قديماً بشكل غريب، غلافه جلد مهترئ، ولا يحمل عنواناً أو أي إشارة إلى محتواه.

دفعني الفضول لفتح الكتاب، ولكن بمجرد أن فعلت ذلك، حدث شيء لم أكن أتوقعه. الصفحات في البداية كانت فارغة تماماً. لم يكن هناك أي شيء مكتوب. لكن بينما كنت أنظر إلى الصفحة الأولى، بدأت الكلمات تظهر تدريجياً، وكأنها تُكتب أمام عينيّ. لم أفهم ما كان يحدث، فقد كانت الأحرف تظهر ببطء، تنبثق من العدم، وتكوّن كلمات وجمل.

بدأت الجمل الأولى بالحديث عن حياتي. نعم، حياتي بالضبط. كنت مذهولاً تماماً. كيف يمكن لكتاب أن يعرف تفاصيل عني؟ تحدثت الكلمات عن طفولتي، عن هواياتي، وحتى عن أفكاري الخاصة التي لم أشاركها مع أحد. كان الأمر أشبه بأن الكتاب يقرأ عقلي ويفتح فصولاً من حياتي كنت قد نسيتها.

ولكن الأمور لم تتوقف عند هذا الحد. بعد أن انتهى الكتاب من سرد ماضيَّ، بدأت الكلمات تتحول إلى المستقبل. لم أستطع أن أنزع نظري عن الصفحات، رغم أن شعوراً داخلياً كان يصرخ فيّ بأن أتوقف. الكتاب كان يروي لي أحداثاً مستقبلية، ولكن لم تكن هذه الأحداث عادية. كان كل ما يتحدث عنه مرعباً.

قرأت عن أوقات قادمة لن أتمكن فيها من النوم بسبب الأصوات الغريبة التي ستملأ غرفتي. أصوات هامسة تأتي من أماكن غير معلومة، تناديني باسمي وتخبرني بأمور لم أرغب في سماعها. قرأت عن ليالٍ سأشعر فيها بشيء ما يمسك بي بينما أنام، وكأنني محاصر داخل جسدي. وصف الكتاب كوابيس كنت سأعيشها بواقعية رهيبة، كوابيس تتحول إلى جزء من حياتي اليومية.

كلما تقلبت الصفحات، كانت الصور التي تتحدث عنها تزداد رعباً. رأيت نفسي في الكتاب، وحيداً في غرفتي، محاطاً بأشياء لم أفهمها، أشباح من الماضي والمستقبل تظهر لي في كل لحظة. رأيت أني سأصل إلى نقطة حيث لا أستطيع التمييز بين الواقع والخيال، حيث تبدأ الكيانات التي لطالما بحثت عنها في الظهور لي، لكن ليس كما تخيلت. كانوا مرعبين، وجوه مشوهة، أصوات كئيبة، وأجساد مغطاة بالظلام.

الكتاب لم يكن ينذرني فقط بما سيحدث، بل كان يُظهر لي بأدق التفاصيل كيف سأفقد السيطرة على حياتي. كل قرار كنت سأقوم به، كل لحظة من الرعب الذي كان ينتظرني، كان مكتوباً في تلك الصفحات. وكأن الكتاب كان يرسم لي طريقاً لا مفر منه.

في اللحظة التي أدركت فيها أنني كنت أقرأ نهايتي، حاولت إغلاق الكتاب. لكن الغريب أن الصفحات لم تعد فارغة ولم تعد تتحرك. كان الكتاب قد أمسك بي. وكأنني وقعت في فخ لا يمكنني الهروب منه.

منذ ذلك اليوم، لم يعد شيء كما كان. بدأت الأحداث المكتوبة في الكتاب تتحقق ببطء. في البداية كانت مجرد همسات خافتة في الليل، ثم بدأت الظلال بالظهور في أركان الغرفة. لم أعد أستطيع النوم. كلما أغمضت عيني، شعرت بتلك الكيانات تحيط بي، تقترب أكثر فأكثر. الأصوات كانت تعرف اسمي، تناديني من الظلام، تخبرني بأشياء عن نفسي لم أكن أعرفها.

لقد تحولت حياتي إلى كابوس مستمر، وكأنني أصبحت جزءاً من ذلك الكتاب الغامض. أعرف الآن أنني كنت أبحث عن أشياء لم يكن يجب أن أبحث عنها. الكتاب لم يكن مجرد نافذة على المستقبل، بل كان الفخ الذي سحبني إلى أعماق الرعب الذي لن أخرج منه.

اليوم، وأنا أكتب هذا، أعلم أن النهاية قريبة. الكتاب أخبرني بذلك. ربما كنت أعتقد أنني أتحكم بقدري، لكن الكتاب كان دائماً يعرف الحقيقة. ربما في يوم ما، سيجد شخص آخر هذا الكتاب، وسيتكرر كل شيء من جديد.

ما مدى فائدة هذه التدوينة؟

انقر على النجمة لتقييمها!

Share this content:

cropped-AHW-logo-8-150x150 قصة الحبر المسكون
منشورات أخرى

راوي قصص - رابطة أدب الرعب

error: Content is protected !!