شكّل الرعب الفلكي أحد أكثر المساحات إغفالاً في الأدب العربي، رغم أنّ جذوره ضاربة في عمق الثقافة القديمة، حيث ارتبطت حركة الكواكب بالقدَر، والرصد، والسحر، وخرائط المصائر البشرية… فالعرب، مثل غيرهم من الحضارات، رأوا السماء كتاباً مفتوحاً، لا مجرّد فضاء صامت… ولأن الليل العربي كان مليئاً بالغيوب، ولأن النجوم كانت الدليل الوحيد في الصحراء، نشأ وعي جمعي يربط بين الضوء البعيد والوجود غير المرئي، بين حركة جرم سماوي واهتزاز مصير إنسان.
في المخيال الشعبي القديم، لم تكن الكواكب أجساماً مادية بل كيانات لها مزاج ومقام وتأثير… كان المشتري رمز الفتح والبركة، والزهرة رمز الارتباط، والمريخ بوابة للدم والغضب، وزُحل سيد الظلال الثقيلة والنحس… ومع مرور الزمن تحول هذا الترميز إلى مفردات يستند إليها السحرة والعارفون عند بناء أعمال الرصد المعقدة. فالسحر المرصود، كما يذكر بعض الموروث، لا يُكتب للحظته بل يُسنَد إلى وقت فلكي محسوب: ساعة زُحلية لنحس، ساعة مشترية لفتح، ساعة قمرية لعقد أو حلّ. وبذلك أصبح الزمن نفسه مادة للسحر، وأصبح الفلك أداة خفية لتنشيط العمل أو إخماده.
هذا الارتباط لم يكن خرافة معزولة، بل كان جزءاً من فلسفة عميقة ترى أنّ الكون شبكة من الإيقاعات، وأن الإنسان ليس منفصلاً عنها… السحرة الذين عملوا في “الرصد” لم يكونوا يتعاملون مع الكوكب بوصفه حجراً مشتعلًا في الفضاء، بل باعتباره رمزاً، مفتاحاً لبوابة، ترديداً لطاقة بدئية… وعندما يُنشئ الراصد عمله، يراعي موضع الجرم، اقترانه، احتراقه، صعوده وهبوطه، تماماً كما يراعي اسم الشخص ووالدته وتكوينه الروحي… وعند اكتمال العناصر، يصبح العمل في نظرهم “حيّاً”، كأن الكوكب نفسه تنفّس فيه.
الأدب العربي لم يلتقط هذه الفكرة إلا نادراً، وغالباً ما استُبدلت بحكايات مبسطة عن الجن والطقوس دون التعمق في خلفيتها الكونية… لكن الرعب الحقيقي في هذا الحقل لا يكمن في الطقس بحد ذاته، بل في الفكرة الفلسفية التي يحملها: أنّ ما يجري فوق رؤوسنا قد يتداخل مع مصائرنا بطريقة لا نفهمها… وأنّ الليل ليس فضاء فارغاً، بل مسرح تُلقى عليه أوامر، وتُفتح فيه نوافذ لا يراها إلا من يعرف توقيتها.
يتداخل الرعب الفلكي مع الخوف من المجهول، لأن الكوكب هنا لا يعمل كجسم يضيء السماء، بل كإشارة… القمر إذا كان محاقاً قد يكون في نظر القدماء زمن ضعف الحجاب بين العوالم، وزحل في ارتفاعه قد يعدّ وقتاً مناسباً لتثبيت عمل لا يراد له أن يُفك، والمريخ في احتراقه قد يدل على طاقة عنيفة تتسرب إلى كل ما يُنشأ تحت ظله… ومن هنا جاءت قصص عن أعمال سحر لا تفكّ إلا في موعد فلكي مقابل، وكأن الذي ربطها لم يكن الساحر فقط، بل الزمن ذاته.
الرعب في هذا المجال ليس في صحة المعتقدات أو بطلانها، بل في الفكرة المركزية التي تجمعها: أنّ هناك نظاماً فلكياً يتجاوز فهم الإنسان، وأن بعض البشر حاولوا التلاعب به… وما يثير القلق أن هذا التلاعب لا يبدو في النصوص القديمة كفعل تحدٍّ، بل كنوع من “الاستئذان” أو “الاستدعاء” لطاقة كوكبية معينة… كأن السحر يصبح لغة تخاطب مع الكون نفسه، وحين يخطئ الساحر في التوقيت أو الصياغة، ينقلب العمل عليه، فيتحول الرصد إلى لعنة متوارثة تمتد بين الأجيال.
الأدب العربي المعاصر قادر على إعادة إحياء هذا الحقل بأسلوب مختلف، بعيد عن الابتذال، أقرب إلى التأويل الماورائي… فالرعب الفلكي يفتح الباب أمام سرديات تربط بين الإنسان والسماء، بين الخوف والغموض الأكبر الذي علّق فوق رؤوسنا منذ آلاف السنين… يمكن أن يقدّم الكاتب العربي رؤية جديدة لكيفية تصادم الإرادة البشرية مع حركة الكون؛ كيف يمكن لسحر عقد في ساعة زحل أن يطارِد عائلة كاملة، أو كيف يمكن لعمل فلكي غير مكتمل أن يفتح باباً لا يُغلق إلا حين يعود الكوكب إلى موقعه الأصلي.
هذا النوع من الرعب يمنح القارئ شعوراً بأن العالم أعمق مما يبدو، وأن الليل ليس مجرد فراغ… خلف كل جرم سماوي سرد وحكاية، خلف كل انعكاس ضوء بعيد سرّ منسي، وخلف كل لحظة زمنية قد تكون نافذة لشيء أكبر منا… الرعب الفلكي العربي ليس عن كائنات تهبط من السماء، بل عن السماء نفسها عندما تتحول إلى كيان يتنفس، يراقب، ويؤثر، وحين يقرر الإنسان أن يتدخل في إيقاعها، يبدأ الرعب الحقيقي.
Share this content:
كاتب وباحث في علوم ما وراء الطبيعة والخوارق
وعلوم القوى المجهولة
