في الخليج، لا ينبع الخوف من الغابات الكثيفة ولا من القصور المتداعية المهجورة، فهنا يتشكّل الخوف بطريقة مختلفة وينساب من بين تفاصيل الأرض نفسها ومن ذاكرتها، فهذه البقعة التي تلمع بأضواء الحضارة والتقدم، كانت -ولا زالت- تُخفي ظلالّا قديمةََ في خلجاتِ الليل.
نحن أبناءُ أرضٍ تتقاطع فيها العتمة مع الضوء، وكل ركنٍ فيها يعرف قصة لم تُحكَ كاملة أبدا، فنخاف من الصحراء الممتدّة بلا نهاية، ونخاف من اتّساعها الذي يبتلع الصوت ويضلّل الخطى، فالصحراء ليست صامتة كما تبدو، ورملها يحفظ كل أثر، ويخبّئ كل سر، ولا يلفظُ منها شيئًا.
ونخاف من البحر الذي جاورناه دومّا وظننا أننا نعرفه ، ولكن هل نعرف حقّا كم حكايةٍ ابتلع من حكايا الغائبين، وكم من أسطورة مرعبة اختبأت في أعماقه، وهل تساءلنا عن تلك الكائنات التي لا تظهر إلا حين يقرر هو أن يكشف وجهه الحقيقي لنا، فالبحر في الخليج ليس ماءً مالحّا وحسب.
وبين الصحراء والبحر، ما يخيفنا هي تلك الحكايات التي رُويت لنا صغارّا، فاستقرت في زاوية مظلمة من اللاوعي، حكاياتٍ عن أم الدويس ذات الجمال الخادع، وأم السعف والليف التي تتخفّى في العتمة، وعن السعلوة التي لم يعلم أحد إن كانت امرأةََ أم مسخّا يتقنُ تقليد البشر.
بل إنّ لكلّ دولة خليجية وحوشََا شكلتها أرضها وواقعها، فتميزت بحكاية عن أخواتها، وفي أحايين أخرى كثيرة نرى أنّ دول الخليج تتشارك في وحوشها، فمثلّا:
في البحرين وقطر والكويت: يخرج أبو درياه من عتمة البحر، نصفه رجل ونصفه مخلوق غريب يضلّل الصيادين ويبتلع قواربهم.
في الكويت والعراق: تتردّد قصص السعلوة التي تغيّر هيئتها، وتتبع كل من يجرّب السير وحيدًا بعد منتصف الليل.
في السعودية والكويت: يظهر ظلّ حمّارة القايلة قبيل العصر، امرأة بقدم حمار تبحث عن فريسةٍ تجهلُ أنّ النهار مرعبٌ كالليل تمامّا.
في عمان والإمارات : يسيرُ أبو السلاسل خلف بيوت العريش على الشواطئ ليلّا، رجلٌ طويلٌ وضخم يسيرُ وتلفه السلاسل التي يصطاد بها من يخرج من العريش.
في الخليج نخافُ من البيوت التي تُطفأ أنوارها فجأة، ومن صمت الفريج حين ينام الجميع، ومن أصوات الطرق التي ربما كانت الريح سببّا لها أو أنّ شيئّا آخر يتربصُ بنا.
لكنّي أعتقد أن الخوف الحقيقي هو احتمال أن لا تكون هذه القصص مجرد خرافاتٍ تُربي بها الأمهاتُ أبناءها، وأنّ هناك شيئًا فعلّا يراقبُنا دائمًا دون أن ننتبه له، فالخليج مكانٌ يعرف كيف يخفي رعبهُ جيدًا، رعبه ليس دمويًا ولا صاخبًا، بل رعبٌ هادئٌ وعميقٌ كبحرهِ، يتسرّب إلى الروح فيتعلقُ بها ويخدشها بصبرٍ وروية كرمالِ صحراءِه.
ربما لهذا نكتب الرعب لأننا نعرف أن بين رمال الصحراء، وملوحة البحر، وهدوء الفرجان، وسكون الظهيرة هناك دائمًا حكاية تُريدُ أن تُروى.
زينب الشمالي
٥-١٢-٢٠٢٥
Share this content:
كاتبة ومؤلفة في أدب الرعب والفنتازيا
