يشكّل الرعب الطقسي أحد أكثر الحقول عمقاً وغموضاً في الثقافة العربية، لكنه بقي طيّ الكتمان، موزعاً بين الحكايات الشعبية، والموروث الشفهي، والخبرات التي لا تُدوّن عادة في الكتب… فالطقس في المخيال العربي ليس مجرد ممارسة روحية أو محاولة لاسترضاء قوة غيبية، بل هو فعل له وزنه، توقيته، رائحته، وجوده الخاص… حين يبدأ الطقس، يصبح المكان مسرحاً، والزمن أداة، والإنسان وسيطاً بين عالمين.
في المجتمعات العربية القديمة، كانت الطقوس تتخذ مكانها عند حدود الليل، على مشارف القرى، في غرف لا يدخلها الغرباء… بعضها ارتبط بالزار، وبعضها بالسحر المرصود، وبعضها بالجنّيات اللواتي يُستدعين بالنغم أو البخور أو بترانيم من لغة أقدم من الذاكرة… هناك طقوس تُمارس للشفاء، وأخرى للحماية، وثالثة للضرر، لكن ما يجمعها كلها هو القاعدة الواحدة: الطقس لا ينجح إلا إذا أُديّ كما هو، دون خطأ واحد.
من الطقوس التي يتردد صداها في الموروث الشعبي طقس الزار البحري الذي يقوم على الإيقاع الموروث من ثقافات متعددة اندمجت في الخليج والبحر الأحمر… في هذا الطقس، لا تكون الموسيقى مجرد خلفية، بل المفتاح الذي يُفتح به باب التواصل مع كيان أو روح أو حالة روحية قديمة… تتبدّل الوجوه أثناء الطقس، ويتغير الصوت، ويصبح الجسد نفسه رسالة… هذه التحولات كانت مصدر رعب للمتفرجين، لأنها تُظهر هشاشة الحاجز بين هوية الإنسان وحضور ما يدخله.
وإذا نظرنا إلى طقوس السحر المرصود، نجد أنها تتطلب عناصر محددة ترتبط بالفلك والزمن… تُكتب الأعمال وتُدفن أو تُعلّق في لحظات فلكية محسوبة، كساعة زُحل أو وقت القمر المحاق. ليس لأن الكوكب نفسه يمارس السحر، بل لأن المعتقد الشعبي يرى أن قوة الطقس تشتعل حين تتوافق مع نبضة كونية معينة… وهذا النوع من الطقوس هو الأكثر رعباً، لأنه يتعامل مع الكون ككائن حيّ يُستأذن ويُستحضر.
وتحت ظلال التاريخ، هناك طقوس أعمق وأشد غموضاً، طقوس لا يعرفها إلا القليل. من بينها طقوس فكّ الرباط، حيث يُستعمل ماء مرقي وملح ومفتاح حديدي تُمرر عليه الأدعية، وكأن المفتاح هو الواسطة لفتح شيء مغلق على الروح… وفي بعض القرى القديمة تُذكر طقوس تسمى “طاسة الخوف”، وفيها يُسكب الماء في إناء نحاسي يُترك تحت ضوء القمر ليلاً، ثم يُشرب عند الفجر لدرء كوابيس الليل… الخوف نفسه يصبح مادة يمكن معالجتها بطقس محسوب.
أما الطقوس التي لا يكاد أحد يذكرها الآن فهي تلك التي ترتبط بالموسيقى غير المتداولة: ترانيم بطيئة، إيقاعات متقطعة، أصوات لا يُعرف أصلها، لكنها بقيت في الذاكرة الشعبية كأصوات “تُسكت الجان أو توقظه”… الخوف من هذه الترانيم لم يكن لأنها “سحر”، بل لأنها تحمل صدى زمن قديم لا يشبه زمننا، كأنها تذكير بأن هناك عوالم موازية اعتاد أسلافنا التعامل معها بلا تردد.
الرعب الطقسي لا يأتي من الطقس نفسه، بل من الشعور بأن الفعل الذي يُقام ليس مجرد ممارسة بشرية، بل مشاركة مع شيء غير مرئي… عندما تنطفئ الأضواء، وتُشعل الشموع، ويُرش البخور، يتغير الهواء… هذا التحول الذي يسبق الطقس هو ما يجعل الرعب يتسلل إلى النفس، لأن الإنسان يوقن في تلك اللحظة أنه لم يعد وحده.
ومع أن الزمن الحديث طمس الكثير من هذه الطقوس، إلا أنها بقيت في الذاكرة الجمعية كهمسات، كحكايات تُروى على استحياء في الليالي، أو كأسرار تُسلم من شيخ إلى آخر دون أن توثّق… الأدب العربي لم يُنقّب في هذا المجال بعد، ولم يستثمره بما يكفي رغم غزارته، ورغم أنه يوفر أرضية خصبة لخلق عوالم رعب مستوحاة من تاريخنا الحقيقي لا من الخيال المستورد.
الرعب الطقسي العربي ليس عن دماء أو أشباح، بل عن الإنسان حين يتجاوز حدوده، حين يحاول محاورة ما لا يُحاور… هو رعب يتأسس على سؤال خطير: ماذا لو كانت الطقوس التي ظنناها منسية لا تزال تعمل؟ ماذا لو أن أحدهم، في مكان ما، ما زال يردد الترنيمة القديمة نفسها، ويشعل البخور نفسه، ويؤدي الحركات نفسها، فيفتح الباب ذاته الذي فُتح قبل مئات السنين؟ هذا السؤال وحده يكفي لبناء روايات، وبحوث، وعوالم كاملة من الرعب الذي يستخرج من جذورنا ما لم يُكتب بعد.
Share this content:
كاتب وباحث في علوم ما وراء الطبيعة والخوارق
وعلوم القوى المجهولة
